الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية وجهة نظر قانونية في ما يخص جريمة قتل الطفل "ياسين" ومرتكبها

نشر في  20 ماي 2016  (11:12)

لا يزال الشارع التونسي مهتزا على وقع جريمة بشعة وفظيعة تقشعر لها الأبدان وتستنكرها حتّى الحيوانات، كان ضحيتها ملاك لم يتجاوز عمره الأربع سنوات حيث تم قتله ذبحا على يد مجرم انعدمت فيه المشاعر الانسانية وهو رقيب سابق في الجيش يدعى محمد أمين اليحياوي..

وفي هذا الإطار وافانا المحامي محمد بن ابراهم قرائته القانونية في جريمة قتل الطفل ياسين ومرتكبها كالتالي:

"أصبح القاصي و الداني في أيامنا هذه يدلي بدلوه في أي موضوع و أية مسألة مهما كانت تقنية أو علمية أو تتطلب أهل خبرة و معرفة في المجال لتحليلها و مناقشتها.

أنطلق من هذه الكلمات لأخوض مع الخائضين في القضية الجديدة التي اجتاحت الرأي العام بكل وسائله من تلفاز وإذاعات وجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي ألا وهي جريمة قتل الطفل "البراءة" الطفل ذي الأربع سنوات ونيف الطفل "ياسين" من قبل رقيب بالجيش الوطني.

نعم سأخوض مع الخائضين ولكن فقط من زاويتي القانونية بصفتي محام وحقوقي. فلمدة يومين أصبحت أستمع لصيحات ونداءات بتطبيق الاعدام على المتهم في هذه الجريمة، أستمع حتى لزملاء وقانونيين يسلطون الحكم بالاعدام على المتهم لا ينقصهم في ذلك إلا ربط حبل المشنقة حول رقبته وشنقه حتى الموت.

عندما نهدف إلى بناء دولة القانون، إلى بناء دولة ديمقراطية لابد على مثقفي البلاد أن يحترموا مبادئ الديمقراطية التي تقضي بتطبيق القانون على الجميع سواسية، ودون أي تمييز عرقي أو ديني أو لوني أو إجرامي. ففظاعة الجرم المرتكب تُكيّف وتُقدّر فقط من طرف هيئة قضائية يخوّل لها القانون وحدها النطق بالأحكام و تسليط العقوبات.

وعندما نتحدث عن القانون لابد من الحديث عن حق كل مواطن مهما كان الجرم الذي ارتكبه في محاكمة عادلة تُكفل له فيها جميع الضمانات القانونية ويتمتع فيها بحقه في الدفاع. فالمتهم في هذه القضية سيمر بمرحلة البحث الابتدائي والبحث التحقيقي وإن قرر حاكم التحقيق إحالته على دائرة الاتهام  يتم إحالته على دائرة الاتهام والتي إن رأت وجها للإدانة يتم إحالته على المجلس. ليس هذا فحسب فكل متهم يتمتع بحقه في التقاضي على درجتين أي ابتدائي و استئنافي كما يتمتع بحقه في الطعن بالتعقيب.

لن أتناول الموضوع من الزاوية التي يتحدث فيها الجميع الآن، فالبعض يرى وجوبية تنفيذ حكم الاعدام و آخرون يعتبرون عقوبة الاعدام عقوبة لا إنسانية و يجب إلغاؤها من القانون. هذا النقاش وجيه ولكن في قضية الحال لا يجب أن نتحدث عن إعدام ما دام لم تتم إدانة المتهم الوحيد في قضية الحال بحكم قضائي بات غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن القانونية.

فالدستور التونسي الذي أتت به الثورة المجيدة جاء فيه أن المتهم بريء إلى تثبت إدانته. إذن كيف لرجال قانون أن يتحدثوا عن تطبيق عقوبة الاعدام على شخص معيّن مازالت قضيته في طور البحث الابتدائي. هذا في رأيي المتواضع غير مقبول من طرف أناس متخصصين في المجال القانوني و الحقوقي و يُفترض أنهم متشبعون بالحق في الدفاع كحق مقدّس.

كذلك إن كل قضية جزائية تخضع لمبدأ هام و حاسم لفصلها و البت فيها، إنه مبدأ وجدان القاضي. فالمشرع التونسي عند صياغته للقوانين الجزائية ينص على الفعل المُجرّم وعلى العقوبة القصوى المستوجبة له. ولكن لا يجب أن ننسى أن هناك عقوبة دنيا فيحق للقاضي أن يسلط عقوبة تتراوح بين القوبتين المذكورتين، ومثال ذلك في جريمة القتل العمد أقصى العقوبة هي السجن لبقية العمر طبقا لمقتضيات الفصل 205 من المجلة الجزائية.

ولكن هناك أدنى لهاته العقوبة وهي المنصوص عليها بالفصل 14 من المجلة الجزائية والذي جاء فيه "ضبطت بخمسة أعوام أدنى عقوبة السجن في الجرائم التي يعتبرها القانون جنابة..." و بالتالي فإن أدنى العقوبة المستوجبة في جريمة القتل العمد هي بالسجن لمدة 5 أعوام.

إضافة إلى ذلك لا يجب أن نتناسى وجود الفصل 53 من المجلة الجزائية الذي يمنح للقاضي إمكانية إعمال ظروف التخفيف و الحط بالعقاب دون أدناه القانوني.

أقول هذا فقط لأبيّن للجميع أن لكل جريمة ظروف وملابسات وحيثيات حفت بها، لكل جريمة دوافع وخبايا يكشفها للقاضي يمكن أن تدفعه لتطبيق أشد العقوبات على الجناة. كما يمكن أن تدفعه للتخفيف عنهم والتلطيف في العقوبة لأجلهم.

هذا في حالة كان الجاني مسؤولا جزائيا عن الأفعال التي اقترفها والتي ارتكبها. فالجاني في جريمة قتل الطفل "ياسين" يمكن أن يكون غير مسؤول جزائيا طبقا لمقتضيات الفصل 38 من المجلة الجزائية الذي ينص على أنه "لا يُعاقب من لم يتجاوز سنّه ثلاثة عشر عاما كاملة عند ارتكابه الجريمة أو كان فاقد العقل" و بالتالي فإن إمكانية أن يكون الجاني مسؤولا جزائيا واردة و لكن يمكن أيضا أن يكون فاقدا لعقله أثناء ارتكابه للجرم المنسوب إليه و بالتالي يصبح غير مسؤول جزائيا و لا يمكن تسليط أي عقاب جزائي في شأنه.

ومسألة فقدان عقله من عدمه لا يمكن إثباته أو نفيه إلا بعرضه على الفحص الطبي الذي يقرر في شأنه بصفة جازمة وقاطعة و يقينية مسؤوليته الجزائية من عدمها. وفي حالة ثبت فقدانه لعقله هذا لا يعني أن الجاني سيبقى حرا طليقا يفعل ما يشاء أنّى شاء و كيفما شاء إذ مكّن القانون التونسي القاضي من إمكانية الامر بتسليم المتهم المعتوه للسلط الإدارية مراعاة لمصلحة الأمن العام كما نص عليه الفصل سالف الذكر، وتبعا لذلك يتم إيداعه وجوبا في إحدى المؤسسات الاستشفائية المعدّة للغرض مثل مستشفى الرازي بمنوبة.

أقول قولي هذا لنتفطن جميعنا إلى مسألة هامة من خلاها نبني وطنا متينا صلبا لا تتلاعب به الأهواء والمصالح. لا سيادة إلا للقانون ولا سلطان إلا للقانون، القانون فوق الجميع مهما كانت صفاتهم ومهما اقترفوا من أفعال. القانون هو الفيصل بين الجميع. والقاضي هو المخول له فقط إصدار الأحكام بالإدانة وتسليط العقوبات في الجنايات، فالديمقراطية تقتضي إعمال القانون على كل متهم مهما كان الجرم المنسوب إليه و القانون يمنح كل متهم جملة من الضمانات لابد من احترامها سواء من قبل باحث البداية أو القضاء بكل فروعه.

تبعا لكل ذلك لا يجب على باحث البداية وعلى القضاة الذين سيتولون التمحيص في الملف و الخوض في الوقائع والبت في القضية أن يتأثروا بما يتم تداوله من قبل الرأي العام سواء من مجتمع مدني أو وسائل إعلام أو صحف أو مجلات أو وقفات احتجاجية أو غيرها من وسائل التأثير. 

أتوجه بهذا المقال للسلطة القضائية التي طالما نادينا باستقلاليتها وأشد على أيادي ممثليها من قضاة وحكام تحقيق ونيابة عمومية وضابطة عدلية أن تتمسك بحادها وموضوعيتها واستقلاليتها عن الرأي العام لتتعامل مع جريمة قضية الحال كغيرها من الجرائم طبقا لما يقتضيه القانون من حيث الاجراءات و من حيث الأصل.

أختم لأقول أن النقاش حول تطبيق عقوبة الاعدام من عدمه على الجاني مرتكب جريمة القتل على الطفل "ياسين" سابق لأوانه باعتبار أن القضاء لم يقض بعد بالإعدام في حقه أولا وإنني أعتبر هذا النقاش السائد على منابر الحوار اليوم لا يعد إلا من قبيل الضغط الغير المشروع والغير القانوني على السلطة القضائية وعلى الضابطة العدلية التي لها وحدها سلطة الفصل والبت في الملف".